الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله قد مضى قولنا في السلطان وتعظيمه وما على الرعية من لزوم طاعته وإدامة نصيحته وما على السلطان من العدل في رعيته والرفق بأهل مملكته. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الحروب ومدار أمرها وقود الجيوش وتدبيرها وما على المدبر لها من إعمال الخدعة وانتهاز الفرصة والتماس الغرة وإذكاء العيون وإفشاء الطلائع واجتناب المضايق وطول تجربته لها و لمقاساة الحروب ومعاناة الجيوش وعلمه أن لا درع كالصبر ولا حصن كاليقين. ثم نذكر كرم الإقدام ومحمود عاقبته ولؤم الفرار ومذموم مغبته. والله المعين.
الحرب رحى ثقالها الصبر وقطبها المكر ومدارها الاجتهاد وثقافها الأناة وزمامها الحذر ولكل شيء من هذه ثمرة فثمرة الصبر التأييد وثمرة المكر الظفر وثمرة الاجتهاد والتوفيق وثمرة الأناة اليمن وثمرة الحذر السلامة. ولكل مقام مقال ولكل زمان رجال والحرب بين الناس سجال والرأي فيها أبلغ من القتال. قال عمرو بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب قال: مرة المذاق إذا كشفت عن ساق من صبر فيها عرف ومن نكل عنها تلف ثم أنشأ يقول: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا حميت وشب ضرامها عادت عجوزاً ذات خليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت مكروهة للثم والتقبيل وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب. فقال: أولها شكوى وأوسطها نجوى وآخرها بلوى. وقال الكميت: والناس في الحرب شتى وهي مقبلة ويستوون إذا ما أدبر القبل كل بأمسيها طب مولية والعاملون بذي غدويها قلل وقال نصر بن سياد صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدا أمرها: أرى خلل الرماد جمر فيوشك أن يكون له ضرام فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام فقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: الشر حلو أوله: مر آخره. والعرب تقول: الحرب غشوم لأنها تنال غير الجاني وقال حبيب: والحرب تركب رأسها في مشهد عدل السفيه به بألف حليم في ساعة لو أن لقماناً بها وهو الحكيم لكان غير حكيم وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب: لا حلم لمن لا سفيه له. ونحو هذا قول الأحنف بن قيس: ما قل سفهاء قوم قط إلا ذلوا. وقال: لأن يطيعني سفهاء قومي أحب إلي من أن يطيعني حلماؤهم. وقال: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار. وقال النابغة الجعدي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وأنشد هذا الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى هذا البيت قال له النبي صلى وقال النابغة الذبياني يصف الحرب: تبدو كواكبه والشمس طالعة لا النور نور ولا الإظلام إظلام يريد بقوله: " تبدو كواكبه والشمس طالعة " شدة الهول والكرب كما تقول العامة: أريته النجوم وسط النهار. قال الفرزدق: " أريك نجوم الليل والشمس حية " وقال طرفة بن العبد: " وتريك النجم يجري بالظهر " وإليه ذهب جرير في قوله: والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يقول: الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس. ومن قولنا في صفة الحرب: ومغبر السماء إذا تجلى يغادر أرضه كالأرجوان وكل مشطب المتنين صاف كلون الملح منصلت يماني كأن نهاره ظلماء ليل كواكبه من السمر اللذان وفي صفة المعترك: ومعترك تهز به المنايا ذكور الهند في أيدي ذكور لوامع يبصر الأعمى سناها ويعمي دونها طرف البصير وخافقة الذرائب قد أنافت على حمراء ذات شباً طرير تحوم حولها عقبان موت تخطفت القلوب من الصدور بيوم راح في سربال ليل فما عرف الأصيل من البكور وعين الشمس ترنو في قتام رنو البكر من بين الستور فكم قصرت من عمر طويل به وأطلت من عمر قصير العمل في الحرب قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب. قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل فتثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب وقال شبيب الحروري: الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع. وكان إذا أمسى يقول لأصحابه: أتاكم المدد يعني الليل. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور والصياح فيها فشل وما برأيي خرجت مع هؤلاء. وقال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترونهم خرساً لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الحيات. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر النظر في العواقب لم يشجع. وقال النعمان بن مقرن لأصحابه عند لقاء العدو: إني هاز لكم الراية فليصلح كل رجل منكم من شأنه وليشد على نفسه وفرسه ثم إني هازها لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه وموضع عدوه ومكان فرصته ثم إني هازها لكم الثالثة وحامل فاحملوا على اسم الله. وللنعمان بن مقرن هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه - إذ تكاملت عنده الحشود وتطلع الصحابة إلى التقدم عليها -: لأقلدن أعنتها رجلاً يكون عداء لأول أسنة يلقاها. فقلدها النعمان بن مقرن. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمر مر السحاب ولا تطلبوا أثراً بعد عين. وقال بعض الحكماء: انتهز الفرصة فإنها خلسة وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه. وإياك والعجز فإنه أذل مركب والشفيع المهين فإنه والله أضعف وسيلة. وخرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك فقيل له: ما يهمك منهم! وجه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكم. فقال: لا إن وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه ومن كان هكذا قلت مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم فيجد عدوه غرة منه. وسئل بعض الملوك عن وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدو عن الريف وإعداد العيون على الرصد وإعطاء المبلغين أمانا على مستأمن ولا تشدهنك الغنيمة عن المحاذرة. وفي بعض كتب العجم: أن حكيماً سئل أشد الأمور تدريباً للجنود وشحذاً لها فقال: تعود القتال وكثرته وأن يكون لها مواد من ورائها. وقال عمرو بن العاص لمعاوية: والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان فقال معاوية: شجاع إذا ما أمكنتني فرصة وإن لم تكن لي فرصة فجبان قال هدبة العذري: ولا أتمنى الشر والشر تاركي ولكن متى أحمل على الشر أركب ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب الصبر والإقدام في الحرب جمعت الله تبارك وتعالى تدبير الحرب كلها في آيتين من كتابه فقال: " وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين وتقول العرب: إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك أن من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل مقبلاً ولذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت توهب لك الحياة. والعرب تقول: الشجاع موقى والجبان ملقى. وقال أعرابي: الله نخلف ما أتلف الناس والدهر متلف ما جمعوا وكم من منية علتها طلب الحياة وحياة سببها التعرض للموت. وكان خالد بن الوليد يسير في الصفوف يذمر الناس ويقول: يا أهل الإسلام إن الصبر عز وإن الفشل عجز وإن مع الصبر النصر. وكتب أنو شروان إلى مرازبته عليكم بأهل الشجاعة والسخاء فإنهم أهل حسن الظن بالله. وقال حسان بن ثابت: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما وقال العلوي في هذا المعنى: محرمة أكفال خيلى على القنا ودامية لباتها ونحورها حرام على أرماحنا طعن مدبر وتغرق منها في الصدور صدورها وكانوا يتمادحون بالموت قعصا ويتهاجون بالموت على الفراش ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه وأول من قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام. وخطب عبد الله بن الزبير الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه فقال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إنا والله لا نموت حتفاً ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف. وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفاً منه. وقال السموأل بن عادياء: ما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظبات نفوسنا وليس على غير السيوف تسيل وقال آخر: وقال الشنفرى: فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ولكن خامري أم عامر إذا حملت رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري هنالك لا أبغي حياة تسرني سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر قوله: خامري أم عامر هي الضبع. يعني بقوله: إذا قتلتموني فلا تدفنوني ولكن ألقوني إلى التي يقال لها: خامري أم عامر وهي الضبع وهذا اللفظ بعيد من المعنى. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - وقيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء - فقال: أبالموت تخوفوني! فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي. وقال لابنه الحسن عليهما السلام: لا تدعون أحداً إلى المبارزة وإن دعيت إليها فأجب فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: بقية السيف أنمى عدداً وأطيب ولداً. يريد أن السيف إذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم ونمى ولدهم. ومما يستدل به على صدق قوله: ما عمل السيف في آل الزبير وآل أبي طالب وما كثر من وقال أبو دلف العجلي: إني امرؤ عودني مهرى ركوب الغلس يحمدني سيفي كما يحمد كري فرسي سيفي بليلي قبسي وفي نهاري أنسى وقال محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان: لست لربحان ولا راح ولا على الجار بنباح فإن أردت الآن موقفاً فبين أسياف وأرماح ترى فتى تحت ظلال القنا يقبض أرواحاً بأرواح وقال أشهب بن رميلة: أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حرد دماء الأساود وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة قال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف فيقول: وسائلة بالغيب عني ولو درت مقارعتي الأبطال طال نحيبها إذا ما التقينا كنت أول فارس يجود بنفس أثقلتها ذنوبها وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: يا أبا سعيد هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه علي حيلي ولم يغشني ذعر قط سلبني رأيي. قال هشام: صدقت هذه والله البسالة. وقيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق قال: كنا مائة لم نكثر فنتكل ولم نقل فنذل. وكان يزيد بن المهلب يتمثل كثيراً في الحرب بقول حصين بن الحمام: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما وقالت الخنساء: نهين النفوس وبذل النفو س يوم الكريهة أبقى لها وقيل لعباد بن الحصين - وكان من أشد أهل البصرة -: في أي عدة كنت تريد أن تلقى عدوك قال: في أجل مستأخر: وكان مما يتمثل به معاوية رضي الله عنه يوم صفين. أبت لي شيمتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقدامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي ونظير هذا قول قطري بن الفجاءة: وقولي كلما جشأت لنفسي من الأبطال ويحك لا تراعي فإنك لو سألت حياة يوم سوى الأجل الذي لك لم تطاعي وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفين حتى يقف بين الصفين ويقول: أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذر ومثله قول جرير: قل للجبان إذا تأخر سرجه هل أنت من شرك المنية ناجي وهذا البيت في شعره الذي أوله: " هاج الهوى لفؤادك المهتاج " ومدح فيه الحجاج فلما أنشده: " قل للجبان إذا تأخر سرجه " قال: جرأت علي الناس يا بن اللخناء. قال: والله ما ألقيت لها بالاً أيها الأمير إلا وقتي هذا. وكان عاصم بن الحدثان عالماً ذكياً وكان رأس الخوارج بالبصرة وربما جاءه الرسول منهم من وهم إذا كسروا الجفون أكارم صبر وحين تحلل الأزرار يغشون حومات المنون وإنها في الله عند نفوسهم لصغار يمشون بالخطي لا يثنيهم والقوم إذ ركبوا الرماح تجار فقال له الفرزدق: ويحك! اكتم هذا لا يسمعه النساخون فيخرجوا علينا بحقوقهم. فقال أبوه: يا فرزدق هو شاعر المؤمنين وأنت شاعر الكافرين. ونظير هذا مما يشجع الجبان قول عنترة الفوارس: بكرت تخوفني الحتوف كأنني أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل لا بد أن أسقى بكأس المنهل فاقني حياءك لا أبالك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل ومن أحسن ما قالوه في الصبر قول نهشل بن حري بن ضمرة النهشلي: ويوم كأن المصطلين بحره وإن لم تكن نار وقوف على جمر صبرنا له حتى يبوخ وإنما تفرج أيام الكريهة بالصبر وأحسن من هذا عندي قول حبيب: فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت إخمصيك الحشر وأحسن من هذا القول: يستعذبون مناياهم كأنهم لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا وقوله في هذا المعنى: قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم لم يحسبوا أن المنية تخلق انظر فحيث ترى السيوف لوامعاً أبدا ففوق رؤوسهم تتألق وقال الحجاج بن حكيم: شهدن مع النبي مسومات حنيناً وهي دامية الحوامي ووقعة راهط شهدت وحلت سنابكهن بالبلد الحرام تعرض للطعان إذا التقينا خدوداً لا تعرض للطام أخذه من قولهم: ضربة بسيف في عز خير من لطمة في ذل. ومن أحسن ما وصفت به رجال الحرب قول الشاعر: رويداً بني شيبان بعض وعيدكم تلاقوا غدا خيلي على سفوان تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى إذا ما غدت في المأزق المتداني إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأية حرب أم بأي مكان قوم إذا نزل الغريب بدارهم تركوه رب صواهل وقيان وإذا دعوتهم ليوم كريهة سدوا شعاع الشمس بالفرسان لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لتطلب العلات بالعيدان بل يسفرون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألوان ومن أحسن المحدثين تشبيها في الحرب مسلم بن الوليد الأنصاري في قوله ليزيد بن مزيد: تلقى المنية في أمثال عدتها كالسيل يقذف جلموداً بجلمود بجود بالنفس إذ ظن الجواد بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود وقوله أيضاً: موف على مهج في يوم ذي رهج كأنه أجل يسعى إلى أمل ينال بالرفق ما تعيا الرجال به كالموت مستعجلاً يأتي على مهل وقال أبو العتاهية: كأنك عند الكر في الحرب إنما تفر عن السلم الذي من ورائكا كأن المنايا ليس تجري لدى الوغى إذا التقت الأبطال إلا برائكا وقد علمت سلامة أن سيفي كريه كلما دعيت نزال أحادثه بصقل كل يوم وأعجمه بهامات الرجال وقال أبو محلم السعدي: تقول وصكت وجهها بيمينها أبعلي هذا بالرحى المتقاعس فقلت لها لا تعجلي وتبيني بلائي إذا التفت علي الفوارس ألست أرد القرن يركب ردعه وفيهن سنان ذو غرارين نائس إذا هاب أقوام تقحمت غمرة يهاب حمياها الألد المداعس لعمر أبيك الخير إني لخادم لضيفي وإني إن ركبت لفارس وقال آخر يمدح المهلب بالصبر: وإذا جددت فكل شيء نافع وإذا حددت فكل شيء ضائر وإذا أتاك مهلبي في الوغى في كفه سيف فنعم الناصر ومن قولنا في القائد أبي العباس في الحرب: نفسي فداؤك والأبطال واقفة والموت يقسم في أرواحها النقما ومن قولنا في وصف الحرب: سيوف يقيل الموت تحت ظباتها لها في الكلى طعم وبين الكلى شرب إذا اصطفت الرايات حمراً متونها ذرائبها تهفو فيهفو لها القلب ولم تنطق الأبطال إلا بفعلها فألسنها عجم وأفعالها عرب إذا ما التقوا في مأزق وتعانقوا فلقياهم طعن وتقبيلهم ضرب ومن قولنا في رجال الحرب وأن الوغى قد أخذت من أجسامهم فهي مثل السيوف في رقتها وصلابتها: سيف تقلد مثله عطف القضيب على القضيب هذا تجز به الرقا ب وذا تجز به الخطوب ومن قولنا أيضا: تراه في الوغى سيفاً صقيلا يقلب صفحتي سيف صقيل ومن قولنا أيضاً: سيف عليه نجاد سيف مثله في حده للمفسدين صلاح ومن قولنا أيضاً في الحرب وذكر القائد: تبختر في قميص من دلاص وترفل في رداء من نجاد كأنك للحرب رضيع ثدى غذتك بكل داهية نآد فكم هذا التمني للمنايا وكم هذا التجلد للجلاد لئن عرف الجهاد بكل عام فإنك طول دهرك في جهاد وإنك حين أبت بكل سعد كمثل الروح آب إلى الفوائد رأينا السيف مرتدياً بسيف وعاينا الجواد على الجواد وقد وصفن الحرب بتشبيه عجيب لم يتقدم إليه ومعنى بديع لا نظير له وذلك قولنا: وجيش كظهر اليم تنفحه الصبا يعب عبوباً من قنا وقنابل فتنزل أولاه وليس بنازل وترحل أخراه وليس براحل ومعترك ضنك تعاطت كماته كؤوس دماء من كلى ومفاصل يديرونها راحاً مني الروح بينهم ببيض رقاق أو بسمر ذوابل وتسمعهم أم المنية وسطها غناء صليل البيض تحت المناصل وصل يحن الإلف من بغضه شوقاً إلى الهجران والصرم حتى إذا نادمهم سيفه بكل كأس مرة الطعم ترى حمياها بهاماتهم تغور بين الجلد والعظم على أهازيج ظبا بينها ما شئت من حذف ومن خرم طاعوا له من بعد عصيانهم وطاعة الأعداء عن رغم وكم أعدوا واستعدوا له هيهات ليس الخضم كالقضم ومن قولنا في شبهه: كم ألحم في أبناء ملحمة ما منهم فوق متن الأرض ديار وأورد النار من أرواح مارقة كادت تميز من غيظ لها النار كأنما صال في ثنيى مفاضته مستأسد حنق الأحشاء هدار لما رأى الفتنة العمياء قد رحبت منها على الناس آفاق وأقطار وأطبقت ظلم من فوقها ظلم ما يستضاء بها نور ولا نار تفوت بالثأر أقواماً وتدركه من آخرين إذ لم يدرك الثار فانساب ناصر دين الله يقدمهم وحوله من جنود الله أنصار كتائب تتبارى حول رايته وجحفل كسواد الليل جرار قوم لهم في مكر الليل غمغمة تحت العجاج وإقبال وإدبار يستقدمون كراديساً مكردسة كما تدفع بالتيار تيار من كل أروع لا يرعى لها جسة كأنه مخدر في الغيل هصار في قسطل من عجاج الحرب مد له بين السماء وبين الأرض أستار فكم بساحتهم من شلو مصرح كأنه فوق ظهر الأرض إجار كأنما رأسه أفلاق حنظلة وساعداه إلى الزندين جمار وكم على النهر أوصالاً مقسمة تقسمتها المنايا فهي أشطار قد فلقت بصفيح الهند هامهم فهن حوامى الخيل أعشار ومن قولنا في الحروب: كأنما باضت نعام الفلا منهم بهام فوق أدراع تراهم عند احتماس الوغى كأنهم جن بأجراع بكل مأثور على متنه مثل مدب النمل في القاع يرتد طرف العين من حده عن عكوكب للموت لماع ومن قولنا في الحرب: ورب ملتفة العوالي يلتمع الموت في ذراها إذا توطت حزون أرض طحطحت الشم من رباها يقودها منه ليث غاب إذا رأى فرصة قضاها تمضي بآرائه سيوف يستبق الموت في ظباها بيض تحل القلوب سوداً إذا انتضى عزمه انتضاها تتبعه الطير في الأعادي تجنى كلا العشب من كلاها أقدم إذ كاع كل ليث عن حومة الموت إذ رآها فرسان العرب في الجاهلية والإسلام كان فارس العرب في الجاهلية ربيعة بن مكدم من بني فراس بن غنم ابن مالك بن كنانة وكان يعقر على قبره في الجاهلية ولم يعقر على قبر أحد غيره. وقال حسان بن ثابت وقد مر على قبره: نفرت قلوصي من حجارة حرة بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنه شريب خمر مسعر لحروب لولا السفار وطول قفر مهمه لتركتها تحبو على العرقوب وكان بنو فراس بن غنم بن كنانة أنجد العرب كان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم. وفيهم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأهل الكوفة: من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب. أبدلكم الله بي من هو شر لكم وأبدلني بكم من هو خير منكم. وددت والله أن لي بجميعكم - وأنتم مائة ألف - ثلثمائة من بني فراس بن غنم. ومن فرسان العرب في الجاهلية: عنترة الفوارس وعتيبة بن الحارث ابن شهاب وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة وزيد الخيل وبسطام بن قيس والأحيمر السعدي وعامر بن الطفيل وفي الإسلام: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام والزبير وطلحة ورجال الأنصار وعبد الله بن خازم السلمى وعباد بن الحصين وعمير بن الحباب وقطري بن الفجاءة والحريش بن هلال السعدي وشبيب الحروري. وقالوا: ما استحيا شجاع قط أن يفر من عبد الله بن حازم وقطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة. وقالوا: ذهب حاتم بالسخاء والأحنف بن قيس بالحلم وخريم بالنعمة وعمير بن الحباب بالشدة. وبينما عبد الله بن خازم عند عبيد الله بن زياد إذ دخل عليه بجرذ أبيض. فعجب منه عبيد الله وقال: هل رأيت يا أبا صالح أعجب من هذا ونظر إليه. فإذا عبد الله قد تضاءل حتى صار كأنه فرخ واصفر كأنه جرادة ذكر. فقال عبيد الله: أبو صالح يعصى الرحمن ويتهاون بالسلطان ويقبض على الثعبان ويمشي على الليث الورد و يلقى الرماح بنحره وقد اعتراه من جرذ ما ترون أشهد أن الله على كل شيء قدير. وكان شبيب الحروري يصيح في جنبات الجيش فلا يلوي أحد على أحد. وفيه يقول الشاعر: إن صاح يوماً حسبت الصخر منحدراً والريح عاصفة والموج يلتطم ولما قتل أمر الحجاج بشق صدره فإذا له فؤاد مثل فؤاد الجمل. فكانوا إذا ضربوا به الأرض ينزو كما تنزو المثانة المنوخة. ورجال الأنصار أشجع الناس. قال عبد الله بن عباس: ما استلت السيوف ولا زحفت الزحوف ولا أقيمت الصفوف حتى أسلم ابنا قيلة. يعني الأوس والخزرج. وهما الأنصار من بني عمرو بن عامر من الأزد. العتبي قال: لما أسن أبو براء عامر بن مالك وضعفه بنو أخيه وخرفوه ولم يكن له ولد يحميه أنشأ يقول: دفعتكم عني وما دفع راحة بشيء إذا لم تستعن بالأنامل يضعفني حلمي وكثرة جهلكم علي وأني لا أصول بجاهل وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ رأى همدان وغناءها في الحرب يوم صفين: ناديت همدان والأبواب مغلقة ومثل همدان سنى فتحة الباب كالهندواني لم تفلل مضاربه وجه جميل وقلب غير وجاب وقال ابن براقة الهمداني: كذبتم وبيت الله لا تأخذونها مراغمة ما دام للسيف قائم وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم وقال تأبط شراً: قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك يبيت بموماة ويضحي بغيرها جحيشا ويعروري ظهور المهالك إذا حاص عينيه كعرى النوم لم يزل له كالئ من قلب شيحان فاتك ويجعل عينيه ربيئة قلبه إلى سلة من حد أخلق باتك إذا هزه في عظم قرن تهللت نواجذ أفواه المنايا الضواحك وقال أبو سعيد المخزومي وكان شجاعاً: وما يرى بنو الأغبار من رحل بالجمر مكتحل بالنبل مشتمل لا يشرب الماء إلا من قليب دم ولا يبيت له جار على وجل ونظير هذا قول بشار العقيلي: فتى لا يبيت على دمنة ولا يشرب الماء إلا بدم وقال عبد الله بن الزبير: التقيت بالأشتر النخعي يوم الجمل فيما ضربته ضربة حتى ضربني وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أعطت عائشة رضي الله عنها الذي بشرها بحياة ابن الزبير إذ التقى مع الأشتر عشرة آلاف درهم. وذكر متمم بن نويرة أخاه مالكاً وجلده فقال: كان يخرج في الليلة الصنبر عليه الشملة الفلوت بين المزادتين على الجمل الثفال. معتقل الرمح الخطي. قالوا: وأبيك إن هذا لهو اجلد. وكتب عمر بن الخطاب إلى النعمان بن مقرن وهو على الصائفة: أن استعن في حربك بعمرو بن معد يكرب وطليحة الأزدي ولا تولهما من الأمر شيئاً فإن كل صانع أعلم بصناعته. وقال عمر بن معد يكرب يصف صبره وجلده في الحرب: أعاذل عدني بزي ورمحي وكل مقلص سلس القياد أعاذل إنما أفنى شبابي إجابتي الصريخ إلى المنادي مع الأبطال حتى سل جسمي وأفرح عاتقي حمل النجاد ويبقى بعد حلم القوم حلمي ويفنى قبل زاد القوم زادي ومن عجب عجبت له حديث بديع ليس من بدع السداد تمنى أن يلاقيني أبي وددت وأينما مني ودادي تمناني وسابغتي قميصي كأن قتيرها حدق الجراد فلو لاقيتني للقيت ليثاً هصوراً ذا ظباً وشباً حداد ولاستيقنت أن الموت حق وصرح شحم قلبك عن سواد أريد حياته ويريد قتلى عذيرك من خليلك من مراد ومن قوله في قيس بن مكشوح المرادي: تمناني على فرس عليه جالساً أسده علي مفاضة كالنه ي أخلص ماءه جدده فلو لاقيتني للقي ت ليثاً فوقه لبده سبنتي ضيغماً هصراً صلخداً ناشزاً كتده يسامي القرن إن قرن تيممه فيعتضده فيأخذه فيرديه فيخفضه فيقتصده فيدمغه فيحطمه فيخضمه فيزدرده المكيدة في الحرب قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة. وقال المهلب لبنيه: عليكم بالمكيدة في الحرب فإنها خير من النجاة. وكان المهلب يقول: أناة في عواقبها فوت خير من عجلة في عواقبها درك. وقال مسلمة بن عبد الملك: ما أخذت أمراً قط بحزم قط فظلمت نفسي فيه وإن كانت العاقبة علي ولا أخذت أمراً قط وضيعت الحزم فيه إلا لمت نفسي عليه وإن كانت العاقبة لي. وسئل بعض أهل التمرس بالحرب: أي المكايد فيها أحزم قال: إذكاء العيون وإفشاء الغلبة واستطلاع الأخبار وإظهار السرور وإماتة الفرق والاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن يستنصح ولا استنصاح لمن يستغش واشتغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره. وفي كتاب للهند: الحازم يحذر عدوه على كل حال يحذر المواثبة إن قرب والغارة إن بعد والكمين إن انكشف والاستطراد إن ولى. وقال المأمون للفضل بن سهل. قد كان لأخي رأى لو عمل به لظفر. فقال له الفضل: ما هو يا أمير المؤمنين قال: لو كتب إلى أهل خراسان وطبرستان والري ودنباوند أنه قد وهب لهم الخراج لسنة لم نخل نحن من إحدى خصلتين إما رددنا فعله ولم نلتفت إليه فعصانا أهل هذه البلدان وفسدت نياتهم فانقطعوا عن معاونتنا وإما قبلناه وأمضيناه فلا نجد ما نعطى منه من معنا وتفرق جندنا ووهي أمرنا. فقال الفضل: الحمد الذي ستر هذا الرأي عنه وعن أصحابه. وكتب الحجاج إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة فكتب إليه: إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون أن يبصره. وكان بعض أهل التمرس يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولي العزم والجبناء من أولي الحزم فإن الجبان لا يألوا برأيه ما يقي مهجكم والشجاع لا يعدو ما يشد بصيرتكم. ثم خلصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معرة الجبان وتهور الشجعان فتكون أنفذ من السهم الزالج والحسام الوالج. وكان الإسكندر لا يدخل مدينة إلا هدمها وقتل أهلها حتى مر بمدينة كان مؤدبه فيها. فخرج إليه فألطفه الإسكندر وأعظمه. فقال له: أصلح الله الملك إن أحق من زين لك أمرك وأعانك على كل ما هويت لأنا. وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك فأحب أن تشفعني فيهم وأن لا تخالفني في كل ما سألتك لهم. فأعطاه من العهود والمواثيق على ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه. فلما توثق منه قال: فإن حاجتي إليك أن تهدمها وتقتل أهلها. قال: وقيل: صالح سعيد بن العاص حصناً من حصون فارس على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً فقتلهم كلهم إلا رجلاً واحداً. ابن الكلبي قال: لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة فبعث إليه علجها: أن أبعث إلي رجلاً من أصحابك أكلمه. ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري. قال: فخرج حتى دخل على العلج فكلمه فسمع كلاماً لم يسمع قط مثله. فقال العلج: حدثني: هل في أصحابك أحد مثلك قال: لا تسأل عن هذا إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني له ولا يدرون ما تصنع بي قال: فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذ مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده فمر من رجل من نصارى غسان فعرفه فقال: يا عمرو قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده فرجع. فقال له الملك: ما ردك إلينا قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت أعجل بهم. وبعث إلى البواب أن خل سبيله. فخرج عمرو وهو يلتفت حتى إذا أمن قال: لا عدت لمثلها أبداً. فلما صالحه عمرو ودخل عليه العلج قال له: أنت هو! قال: نعم على ما كان من غدرك. وقال: ولما أتي بالهرمزان أسيراً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له: يا أمير المؤمنين هذا زعيم العجم وصاحب رستم. فقال له عمر: أعرض عليك الإسلام نصحاً لك في عاجلك وآجلك. قال: يا أمير المؤمنين إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام رهبة. فدعا له عمر بالسيف. فلما هم بقتله قال: يا أمير المؤمنين شربة ماء أفضل من قتلى على ظمأ. فأمر له عمر بشربة ماء. فلما أخذها قال له: أنا آمن حتى أشربها قال: نعم. فرمى بها وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج. قال: صدقت لك التوقف عنك وأنظر في أمرك ارفعوا عنه السيف. فلما رفع عنه قال: الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده. قال عمر: أسلمت خير إسلام فما أخرك قال: كرهت أن يظن أني إنما أسلمت جزعاً من السيف وإيثاراً لدينه بالرهبة. فقال عمر: إن لأهل فارس عقولاً بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك ثم أمر به أن يبر ويكرم. فكان عمر يشاوره في توجيه العساكر والجيوش لأهل فارس. وهذا نظير فعل الأسير الذي أتى به معن بن زائدة في جملة الأسرى فأمر بقتلهم فقال له أتقتل الأسرى عطاشاً يا معن فأمر بهم فسقوا. فلما شربوا قال: أتقتل أضيافك يا معن فخلى سبيلهم. وذكروا أن ملك من ملوك العجم كان معروفاً ببعد الغور ويقظة الفطنة وحسن السياسة وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يظهر إلى محاربته فيكشف عن ثلاث خصال من حاله فكان يقول لعيونه: انظروا هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها أم يخدعه عنها المنهي ذلك إليه وانظروا إلى الغنى في أي صنف هو من رعيته أفيمن اشتد أنفه وقل شرهه أم فيمن قل أنفه واشتد شرهه وانظروا في أي صنفي رعيته القوام بأمره أفيمن نظر ليومه وغده أم من شغله يومه عن غده فإن قيل له لا يخدع عن أخبار رعيته والغنى فيمن قل شرهه واشتد أنفه والقوام بأمره من نظر ليومه وغده قال: اشتغلوا عنه بغيره. وإن قيل له ضد ذلك قال: نار كامنة تنتظر موقد وأضغان مزملة تنتظر مخرجاً اقصدوا له فلا حين أحين من سلامة مع تضييع ولا عدو أعدى من أمن أدى إلى اغترار. وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ ثم نزلت بابل ثم نزل أردشير بن بابك فارس فصارت دار مملكتهم وصار بخراسان ملوك الهياطلة وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بههرام ملك الفرس وكان غزاهم. فكاده ملك الهياطلة بأن عمد إلى رجل ممن عرفه بالمكابدة وحسن الإدارة فأظهر السخط عليه ووقع به على أعين الناس توقيعاً قبيحاً ونكل به تنكيلاً شديداً ثم أرسله وقد واطأه على أمر أبطنه معه وظاهره عليه. فخرج حتى أتى فيروز في طريقه فأظهر له النزوع إليه والاستنصار به من عظيم ما يناله. فلما رأى فيروز ما به من التوقيع والنكاية فيه وثق به واستنام إليه. فقال له: أنا أدلك أيها الملك على غرة القوم وعورتهم وأعلمك مكان غفلتهم. فسلك به سبيل مهلكة معطشة. ثم خرج إليه ملك الهياطلة فأسره وأكثر أصحابه. فسألهم أن يمنوا عليه وعلى من معه وأعطاهم موثقاً لا يغزوهم أبداً ونصب لهم حجراً جعله حداً بينه وبينهم وحلف لهم أن لا يجاوزه هو ولا جنوده وأشهد الله عليه وعلى من حضر من قرابته وأساورته. فمنوا عليه وأطلقوه ومن معه. فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة مما أصابه فعاد إلى غزوهم ناكثاً لعهده غادراً بذمته إلا أنه لطف في ذلك بحيلة ظنها مجزية في أيمانه فجعل الحجر الذي نصبه لهم على فيل في مقدمة عسكره وتأول في ذلك أنه لا يجاوزه. فلما صار إليهم ناشدوه الله وذكروه الأيمان به وما جعل على نفسه من عهده وذمته. فأبى إلا لجاجاً ونكثاً. فواقعوه فضفروا به فقتلوه وقتلوا حماته واستباحوا عسكره. أسامة بن زيد الليثي: قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقاً وهو يريد أخرى ويقول: الحرب خدعة. زياد عن مالك بن أنس: كان مالك عبد الله الخثعمي وهو على الصائفة يقوم في الناس كلما أراد أن يرحل فيحمد الله تعالى ويثني عليه ثم يقول: إني دارب بالغداة إن شاء الله تعالى درب كذا. فتتفرق الجواسيس عنه بذلك. فإذا أصبح الناس سلك بهم طريقاً أخرى. فكانت الروم تسميه الثعلب.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الجراح: إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً أو سرية قال: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً. فإذا بعثت جيشاً أو سرية فمرهم بذلك. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عند عقد الألوية: بسم الله وبالله وعلى عون الله امضوا بتأييد الله والنصر ولزوم الحق والصبر فقاتلوا في سبيل الله لا من كفر بالله ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ولا تجبنوا عند اللقاء ولا تمثلوا عند القدرة ولا تسرفوا عند الظهور ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند حمة النهضات وفي شن الغارات ولما وجه أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيعه راجلاً. فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم قال: إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له - يعني الرهبان - وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤسهم الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال له: إني موصيك بعشر: لا تغدر ولا تمثل ولا تقتل هرماً ولا امرأة ولا وليداً ولا تقرن شاة ولا بعيراً إلا ما أكلتم ولا تحرقن نخلاً ولا تخربن عامر ولا تغل ولا تبخس. وقال أبو بكر رضي الله عنه لخالد بن الوليد حين وجهه لقتال أهل الردة: سر على بركة الله فإذا دخلت أرض العدو فكن بعيدا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة. واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه واحترس من البيات فإن في العرب غرة: وأقل من الكلام فإنما لك ما وعي عنك. واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سرائرهم وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. كتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس مع ابن نفيلة الغساني: الحمد لله الذي فض حرمتكم وفرق جمعكم وأوهن بأسكم وسلب ملككم وأذل عزكم. فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إلي بالرهن واعتقدوا منا الذمة وأجيبوا إلى الجزية وإلا والله الذي لا إله إلا هو لأسيرن إليكم بقوم كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم على منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع. وأقم ومن معك في كل جمعة يوم وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه ولا يرزأ أحداً أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها فما صبروا لكم فتولوهم خيراً. ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت لأرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خيره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا أمدادهم وموافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم. وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك وتخير لهم سوابق الخيل. فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد لا تخص بها أحداً يهوى فيضيع من أمرك ورأيك اكثر مما حابيت به أهل خاصتك. ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف عليها فيه غلبة أو ضيعة ونكاية. فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك واجمع إليك مكيدتك وقوتك ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال حتى تبصر عورة عدوك ومقالته وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها بها فتصنع بعدوك كصنعه بك. ثم أذك أحراسك على عسكرك وتيقظ من البيات جهدك. ولا تؤتي بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدو الله وعدوك. والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم والله المستعان. وأوصى عبد الملك بن مروان أميراً سيره إلى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحاً تجر وإلا تحفظ برأس المال. ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة وكن من احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك. وكان زياد يقول لقواده: تجنبوا اثنين لا تقاتلوا فيهما العدو: الشتاء وبطون الأودية. وأغزى الوليد بن عبد الملك جيشاً في الشتاء فغنموا وسلموا فقال لعباد: يا أبا حرب أين رأى زياد من رأينا فقال: يا أمير المؤمنين قد أخطأت وليس كل عورة تصاب. العتبي قال: جاشت الروم وغزوا المسلمين براً وبحراً فاستعمل معاوية على الصائفة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فلما كتب له عهده قال: ما أنت صانع بعهدي قال: أتخذه إماماً لا أعصيه. قال: اردد علي عهدي. ثم بعث إلى سفيان بن عوف الغامدي فكتب له عهده ثم قال له: ما أنت صانع بعهدي قال: أتخذه إماماً أمام الحزم فإن خالفه خالفته. فقال معاوية: هذا الذي لا يكفكف من عجلة ولا يدفع في ظهره من خور ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثفال. وقال دريد الصمة لمالك بن عوف النصري قائد هوازن يوم حنين: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام. مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم ذاك قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فأنقض به وقال: راعى ضأن والله وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ويحك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئاً ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم ثم الق الصباء على متون الخيل. فإن كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال: لا والله لا أفعل ذلك إنك قد كبرت وذهل عقلك. قال: دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني ثم أنشأ يقول: يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع أقود وطفاء الزمع كأنها شاة صدع وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: إذ غزوتم فأطيلوا الأظفار وقصروا الشعور والحظوا الناس شزراً وكلموهم رمزاً واطعنوهم وخزاً. وكان أبو مسلم يقول لقواده: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظفر وأكثروا ذكر الضغائن وكان سعيد بن زيد يقول لبنيه: قصروا الأعنة واشحذوا الأسنة تأكلوا القريب ويرهبكم البعيد. وقال عيسى بن موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة لمحاربة ابني عبد الله بن الحسن وجعل يوصيني ويكثر قلت: يا أمير المؤمنين إلى متى توصيني: إني أنا ذاك الحسام الهندي أكلت جفني وفريت غمدي فكل ما تطلب عندي عندي المحاماة عن العشيرة ومنع المستجير قال عبد الملك بن مروان لجعيل بن علقمة الثعلبي: ما مبلغ عزكم قال: لم يطمع فينا ولم يؤمن منا. قال: فما مبلغ حفظكم قال: يدفع الرجل منا عمن استجار به من غير قومه كدفاعه عن نفسه. قال عبد الملك: مثلك من يصف قومه. وقال عبد الملك بن مروان لابن مطاع الغنزي: أخبرني عن مالك بن مسمع. قال له: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه في أي شيء غضب. قال عبد الملك: هذا والله السؤدد. قال: ولم يل قط مالك بن مسمع ولا أسماء بن خارجة شيئاً للسلطان. وكانت العرب تمتدح بالذب عن الجار فيقولون: فلان منيع الجار حامي الذمار. نعم حتى كان فيهم من يحمي الجراد إذا نزل في جواره فسمي مجير الجراد. وقال مروان بن أبي حفصة يمدح معن بن زائدة ويصف مفاخر بني شيبان ومنعهم لمن استجار بهم: هم يمنعون الجار حتى كأنما لجارهم بين السماكين منزل وقال آخر: هم يمنعون الجار حتى كأنه كثيبة زور بين خافيتي نسر وذكر أن معاوية ولى كثير بن شهاب المذحجي خراسان فاختان مالاً كثيراً ثم هرب فاستتر عند هانئ بن عروة المرادي: فبلغ ذلك معاوية فهدر دم هانئ. فخرج إلى معاوية فكان في جواره ثم حضر مجلسه وهو لا يعرفه فلما نهض الناس ثبت مكانه. فسأله معاوية عن أمره فقال: أنا هانئ بن عروة. فقال: إن هذا اليوم ليس باليوم الذي يقول فيه أبوك: أرجل جمتي وأجر ذيلي وتحمل شكتي أفق كميت وأمشي في سراة بني غطيف إذا ما ساءني أمر أبيت قال: أنا والله يا أمير المؤمنين اليوم أعز مني ذلك اليوم. فقال: بم ذلك قال: بالإسلام. قال: أين كثير بن شهاب قال: عندي وعندك يا أمير المؤمنين. قال: انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضاً وسوغه بعضاً وقد أمناه ووهبناه لك. الشيباني قال: لما نزل محمد بن أبي بكر مصر وصير إليه معاوية معاوية بن حديج الكندي تفرق عن محمد من كان معه فتغيب. فدل عليه فأخذه وضرب عنقه وبعث برأسه إلى وكان محمد بن جعفر بن أبي طالب معه فاستجار بأخواله من خثعم فغيبوه. وكان سيد خثعم يومئذ رجلاً في ظهره بزخ من كسر أصابه فكان إذا مشى ظن الجاهل أنه يتبختر في مشيته فذكر لمعاوية أنه عنده فقال له: أسلم إلينا هذا الرجل: فقال: ابن اختنا لجأ إلينا لنحقن دمه عنك يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أدعه حتى تأتيني به. قال لا والله لا أتيك به. قال: كذبت. والله لتأتيني به إنك ما علمت لأوره. قال: أجل إني لأوره حين أقاتلك على ابن عمك لأحقن دمه وأقدم ابن عمي دونه تسفك دمه. فسكت عنه معاوية وخلى بينه وبينه. الشيباني قال: قال سعيد بن سلم: أهدر المهدي دم رجل من أهل الكوفة كان يسعى في فساد دولته وجعل لمن دله عليه أو جاءه به مائة ألف درهم. قال: فأقام الرجل حيناً متوارياً ثم إنه ظهر بمدينة السلام فكان ظاهراً كغائب خائفاً مترقباً. فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأهوى إلى مجامع ثوبه وقال: هذا بغية أمير المؤمنين فأمكن الرجل من قياده ونظر إلى الموت أمامه. فبينما هو على الحالة إذ سمع وقع الحوافر من وراء ظهره فالتفت فإذا معن بن زائدة فقال: يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فوقف وقال للرجل الذي تعلق به: ما شأنك قال: بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وأعطى لمن دل عليه مائة ألف. فقال: يا غلام انزل عن دابتك واحمل أخانا. فصاح الرجل: يا معشر الناس يحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين! قال له معن: اذهب فأخبره أنه عندي. فانطلق إلى باب أمير المؤمنين فأخبر الحاجب فدخل إلى المهدي فأخبره فأمر بحبس الرجل ووجه إلى معن من يحضر به. فأتته رسل أمير المؤمنين وقد لبس ثيابه وقربت إليه دابته فدعا أهل بيته ومواليه فقال: لا يخلصن إلى هذا الرجل وفيكم عين تطرف. ثم ركب ودخل حتى سلم على المهدي فلم يرد عليه. فقال: يا معن أتجير علي قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ونعم أيضاً! واشتد غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفاً ولي أيام كثيرة قد تقدم فيها بلائي وحسن غنائي فما رأيتموني أهلاً أن تهبوا لي رجلاً واحداً استجار بي فأطرق المهدي طويلاً ثم رفع رأسه وقد سري عنه فقال: قد أجرنا من أجرت. قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه فعل. قال: قد أمرنا له بخمسين ألف. قال: يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء تكون على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم فأجزل له الصلة. قال: قد أمرنا له بمائة ألف. قال: فتعجلها يا أمير المؤمنين فإن خير البر عاجله. فأمر بتعجيلها. فدعا لأمير المؤمنين بأفضل دعاء ثم انصرف ولحقه المال. فدعا الرجل فقال له: خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى. قال عمرو بن معد يكرب: الفزعات ثلاث: فمن فزعته في رجليه فذلك الذي لا تقله رجلاه ومن كانت فزعته في رأسه فذلك الذي يفر عن أبويه ومن كانت فزعته في قلبه فذلك الذي يقاتل. وقال الأحنف بن قيس: أسرع إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار. وقامت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن لله خلقاً قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح خفقت معها فأف للجبناء! أف للجبناء! وقال الشاعر: يفر الجبان عن أبيه وأمه ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه ويرزق معروف الجواد عدوه ويحرم معروف البخيل أقاربه وقال خالد بن الوليد عند موته. لقد لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية ثم هأنذا أموت حتف أنفى كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء. ومن أشعار الفرارين الذين حسنوا فيها الفرار على قبحه حتى حسن قول الفرار السلمي: وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي هل ينفعنى أن تقول نساؤهم وقتلت دون رجالها: لا تبعد وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ما اعتذر أحد من الفرارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا مهري بأشقر مزبد وعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي فصدفت عنهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد وهذا الذي سمعه رتبيل فقال: يا معشر العرب حسنتم كل شيء فحسن حتى الفرار. وبعد هذا يأتي قول حسان في ذلك. وأسلم الحارث يوم فتح مكة وحسن إسلامه وخرج في زمن عمر إلى الشام من مكة بأهله وماله مجاهداً فأتبعه أهل مكة يبكون فرق وبكى وقال: أما لو كنا نستبدل داراً بدارنا أو جاراً بجارنا ما رأينا بكم بدلا ولكنها النقلة إلى الله. فلم يزل هنالك مجاهداً حتى مات. وقال آخر: قامت تشجعني هند وقد علمت أن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي منع الأبصار رؤيته ما يشتهي الموت عندي من له أدب ولست منهم ولا أبغي فعالهم لا القتل يعجبني منهم ولا السلب وقال محمود الوراق: أيها الفارس المشيح المغير إن قلبي من السلاح يطير ليس لي قوة على رهج الخيل إذا ثور الغبار مثير واستدارت رحى الحروب بقوم فقتيل وهارب وأسير حيث لا ينطق الجبان من الذعر ويعلو الصياح والتكبير أنا في مثل ذا وهذا بليد ولبيب في غيره بحرير وقال أيمن بن خريم: إن للفتنة ميطاً بيناً فرويد الميط منها يعتدل فإذا كان عطاء فأتهم وإذا كان قتال فاعتزل إنما يوقدها جهالها حطب النار فدعها تشتعل ومما يحتج به الفرارون ما قاله صاحب كليلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بداً منه لأن النفقة فيه من النفس والنفقة في غيره من المال. ومن الفرارين: عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فر من الأزارقة وكان في عشرة آلاف وكان قد بعث إليه المهلب: يا بن أخي خندق على نفسك وعلى أصحابك فإني عالم بأمر الخوارج ولا تغتر. فبعث إليه: أنا أعلم بهم منك وهم أهون علي من ضربة الجمل. فبيته قطري صاحب الأزارقة فقتل من أصحابه خمسمائة وفر لا يلو على أحد. فقال فيه الشاعر: تركت ولداننا تدمى نحورهم وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل ومن الفرارين: أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فر يوم مرداء هجر من أبي فديك. فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام فجلس يوماً بالبصرة فقال: سرت على فرسي المهرجان من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام. فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير فلو ركبت النيروز لسرت إليها في يوم واحد. فلما دخل عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلمونه ولا ما يلقونه من القول أيهنئونه أم يعزونه حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف الناس له وقالوا: ما عسى أن يقال للمنهزم فسلم ثم قال: مرحباً بالصابر المخذول الذي خذله قومه الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا فقد تعرضت للشهادة جهدك ولكن علم الله تعالى حاجة أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك. فقال أمية بن عبد الله: ما وجدت أحداً أخبرني عن نفسي غيرك. إذا صوت العصفور طار فؤاده وليث حديد الناب عند الثرائد أتي الحجاج بدواب أمية قد وسم على أفخاذها عدة فأمر الحجاج أن يكتب تحت ذلك: للفرار. وقال أبو دلامة: كنت مع مروان أيام الضحاك الحروري فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله ثم ثان فقتله ثم ثالث فقتله فانقبض الناس عنه وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم. فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف قال: فلما سمعت عشرة آلاف هانت علي الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه فإذا عليه فرو قد أصابه المطر فارمعل ثم أصابته الشمس فاقفعل وله عينان تتقدان كأنهما جمرتان. فلما رآني فهم الذي أخرجني فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول: وخارج أخرجه حب الطمع فر من الموت وفي الموت وقع " من كان ينوي أهله فلا رجع " فلما رأيته قنعت رأسي ووليت هارباً ومروان يقول: من هذا الفاضح لا يفتكم فدخلت في غمار الناس. وقيل لأعرابي: ألا تغزو العدو قال: وكيف يكونون لي عدواً وما أعرفهم ولا يعرفوني وقيل لآخر: ألا تغزو العدو قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أخب إليه راكضاً. ومما قيل في الفرارين والجبناء من الشعر قول حسان بن ثابت يعير الحارث بن هشام بفراره يوم بدر وقد تقدم ذكر ذلك: إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث هشام ترك الأحبة لم يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام ملأت به الفرجين فارمدت به وثوى أحبته بشر مقام وقال بعض العراقيين في رجل أكول جبان: إذا صوت العصفور طار فؤاده وليث حديد الناب عند الثرائد وقال فيه: ضعيف القلب رعديد عظيم الخلق والمنظر رأى في النوم عصفوراً فوارى نفسه أشهر وقال آخر: لو جرت خيل نكوصاً لجرت خيل ذفافه وقال آخر: خرجنا نريد مغاراً لنا وفينا زياد أبو صعصعة فستة رهط به خمسة وخمسة رهط به أربعة ولم يقل أحد في وصف الجبن والفرار مثل قول الطرماح في بني تميم: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت طرق المكارم ضلت ولو أن برغوثاً على ظهر قملة رأته تميم يوم زحف لولت ولو جمعت يوماً تميم جموعها على ذرة معقولة لاشمعلت وليس يعاب الشجاع والبهمة البطل بالفرة الواحدة تكون منه خاصة لا عامة وقليلة لا عادة كما قال زفر بن الحارث وفر يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه فقال: أيذهب يوم واحد إن أسأته بصالح أيامي وحسن بلائيا ولم تر مني زلة قبل هذه فراري وتركي صاحبي ورائيا وفر عمر بن معد يكرب من عباس بن مرداس السلمي وأسر أخته ريحانة. وفيها يقول عمرو: أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع وفر عن بني عبس وفيهم زهير بن جذيمة العبسي وولده شأس بن زهير وقيس بن زهير أجاعلة أم الثوير خزاية علي فراري إذ لقيت بني عبس لقيت أبا شأس وشأساً ومالكاً وقيساً فجاشت من لقائهم نفسي لقونا فضموا جانبينا بصادق من الطعن مثل النار في الحطب اليبس ولما دخلنا تحت فيء رماحهم خبطت بكفي أطلب الأرض باللمس وليس يعاب المرء من جبن يومه إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس وقال أيضاً: ولقد أجمع رجلي بها حذر الموت وإني لفرور ولقد أعطفها كارهة حين للنفس من الموت هرير كل ما ذلك مني خلق وبكل أنا في الروع جدير وابن صبح سادراً يوعدني ما له في الناس ما عشت مجير وقال الحارث لامرأته وذلك أنها نظرت إليه وهو يحد حربة يوم فتح مكة فقالت له: ما تصنع بهذه قال: أعددتها لمحمد وأصحابه. فقالت: ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء! قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم قم أنشأ يقول: فلما لقيهم خالد بن الوليد يوم الخندمة انهزم الرجل فلامته امرأته فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالموتمة ولحقتنا بالسيوف المسلمة يفلقن كل ساعد وجمجمة ضرباً فلا تسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة وكان أسلم بن زرعة وجهه عبيد الله بن زياد لحرب أبي بلال الخارجي في ألفين وأبو بلال في أربعين رجلاً فشدوا عليه شدة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه فما دخل على ابن زياد عنفه في ذلك وقال: أتمضي في ألفين وتنهزم. عن أربعين! فخرج عنه وهو يقول لأن يذمني ابن زياد حياً خير من أن يمدحني ميتاً. وفي رواية أخرى: أن يشتمني الأمير وأنا حي أحب إلي من أن يدعو لي وأنا ميت. فقال شاعر الخوارج: أألفا مؤمن لستم كذاكم ولكن الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة قد علمتم على الفئة الكثيرة ينصرونا ومثل ذلك قول عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي وكان فر يوم الحرة من جيش مسلم بن أنا الذي فررت يوم الحرة والشيخ لا يفر إلا مرة فاليوم أجزى فرة بكره لا بأس بالكرة بعد الفره فلم يزل يقاتل حتى قتل. وأحسن ما قيل في الفرار كله ما قال قيس بن الخطيم: إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود وازورار المناكب أجالدهم يوم الحديقة حاسراً كأن يدي بالسيف مخراق لاعب وقر عتيبة بن الحارث بن شهاب يوم ثبرة عن ابنه حزوة وقال: يا حسرتا لقد لقيت حسرة يالتميم غشيتني غمره نعم الفتى غادرته بثبرة نجيت نفسي وتركت حزرة هل يترك الحر الكريم بكره وفر أبو خراش الهذلي من فائد وأصحابه ورصدوه بعرفات فقال: رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت - وأنكرت الوجوه - هم هم وقلت وقد جاوزت أصحاب فائد أأعجزت أولى الخيل أم أنا أحلم وفر خبيب بن عوف يوم مرداء هجر من أبي فديك فقال: بذلت لهم يا قوم حولي وقوتي ونصحي وما ضمت يداي من التبر فلما تناهى الأمر بي من عدوكم إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري وطرت ولم أحفل ملامة عاجز يقيم لأطراف الردينية السمر فلو كان لي روحان عرضت واحداً لكل رديني وأبيض ذي أثر رجع بنا القول إلى الفرارين والجبناء وما قيل فيهم. فر خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد عن مصعب بن الزبير يوم الجفرة بالبصرة فقال فيه الفرزدق: وكل بني السوداء قد فر فرة فلم يبق إلا فرة في است خالد فضحتم أمير المؤمنين وأنتم تمرون سودانا غلاظ السواعد وقيل لرجل جبان في بعض الوقائع: تقدم. فأنشأ يقول: وقالوا تقدم قلت لست بفاعل أخاف على فخارتي أن تحطما فلو كان لي رأسان أتلفت واحداً ولكنه رأس إذا راح أعقما ولو كان مبتاعاً لدى السوق مثله فعلت ولم أحفل بأن أتقدما وقالت هند بنت النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع الجذامي: عجباً منك! كيف سودك قومك وأنت جبان غيور قال: أما الجبن فإن لي نفساً واحدة فأنا أحوطها وأما الغيرة فما أحق بها من كانت له امرأة حمقاء مثلك مخافة أن تأتيه بولد من غيره فترمي به في حجره. وقال كعب بن زهير: بخلاً علينا وجبناً من عدوكم لبئست الخلتان: البخل والجبن فضائل الخيل قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الخيل: أعرفها أدفاؤها وأذنابها مذابها والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بإناث الخيل فإن بطونها كنز وظهورها حرز وأصحابها معانون عليها. وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن اشتري فرساً أعده في سبيل الله. فقال له: اشتره أدهم أو كميتاً أقرح أرثم أو محجلاً مطلق اليمين فإنها ميامن الخيل. وقيل لبعض الحكماء: أي الأموال أشرف قال فرس يتبعها فرس في بطنها فرس.
|